نِعم وعذاب الآخرة هما تجسم لأعمالنا الدنيوية
إذا كنتم متشوقين بشأن مسألة الآخرة وما يحدث بعد الموت، فمن المحتمل أنكم قد سمعتم بمصطلح “تجسم الأعمال” أو “تجسد الأفعال الدنيوية“. نعلم جميعًا إلى حدٍ ما أن الظروف التي نواجهها في الآخرة هي نتيجة أعمالنا وسلوكنا وأداءنا في الدنيا. “تجسم الأعمال” أو “تجسد الأعمال” أو “تمثّل الأعمال” هو مصطلح في الفلسفة الإسلامية يشير إلى تجسيد أعمال البشر في مواجهتهم بها يوم القيامة، ولكن ربما لا نعرف بالضبط كيف يحدث هذا الأمر.
O هل نقوم بأعمالنا في الدنيا ونحصل على نتيجتها في الآخرة على شكل الجنة أو النار؟
O هل لأعمالنا شكل ظاهري و باطني وهل نواجه الآخرة بشكلنا الباطني للعمل في الآخرة؟
O هل “تجسم الأعمال” هو حقيقة حقيقية لأعمالنا التي تظهر لنا في الآخرة؟
جميع هذه العبارات صحيحة إلى حدٍ ما، ولكن “تجسم الأعمال” هو أيضًا من تلك المواضيع التي لا يتوفر لدينا الكثير من المعلومات عنها بسبب طابعها الغيبي والأخروي، ولكي نفهمها يجب علينا اللجوء إلى التعاليم الإلهية أو المقارنة والتحليل.
لقد وصلنا في المقالات السابقة إلى تلخيص قانون النسبة وتبين لنا أن هناك علاقة بين الجنين والدنيا، وهناك أيضًا علاقة بين الدنيا والآخرة، وكما يتحمل الجنين نتيجة جميع الأعمال التي قام بها في الرحم، فإننا أيضًا نتلقى نتيجة كل أعمالنا في الآخرة على شكل تجسيم لا يمكننا إخفاؤه. في الواقع، نرغب في هذا المقال في فهم ما هو “تجسم الأعمال” وكيف تتجسد أعمال الجنين في الدنيا وكيف تتجسد اعمالنا في الآخرة.
نتائج عملنا في فترة الرحم
عندما ننظر إلى أداء الجنين من خارج رحم الأم سندرك العلاقة بين أقل جهد أو تقصير يبذله وبين المولود الذي يدخل العالم بعد الولادة. هذه العلاقة دقيقة ومحسوبة في رحم الأم بما يكفي لدرجة أنه بمجرد ما إن يتم فيه تقصير أو نقص فإنه سوف يكون له تأثير مباشر على الجسم في النهاية. الأعمال التي يقوم بها الجنين تسعى إلى بناء سماته العالمية ويُؤدي أصغر تخطي في القيام بمهامه إلى ظهور أمراض وعيوب لا يمكن تعويضها بعد الولادة.
تماماً كما نلاحظ أداء طالب في امتحانات نهاية الفصل، فإن سمات جسم الطفل الذي يولد تكون دليلاً كاملاً على أداء الجنين خلال فترة الجنين. في الواقع، فإن الجنين يقدم تقريرًا كاملاً عن أداءه للتسعة أشهر عندما يولد على شكل إنسان سالم. نظرًا لأن العلاقة بين أداء الجنين في رحم الأم ومظهره في العالم واضحة بالنسبة لنا، لذلك فإنه لا بخطر على بال أحد منا أن للجنين قدرة على إخفاء جزء من كسله في رحم الأم. لأننا نعلم أن أعمال الجنين في رحم الأم تتجسد في وجوده بمجرد دخوله العالم.
لتوضيح الفكرة أكثر، تخيل شخصًا يقوم بطهي الطعام. إننا لا نحتاج إلى أن يخبرنا أحد بما إذا كان لديه خبرة في الطهي أم لا؛ بل ِإن جودة الطعام وطعمه هما اللتان تعطيان الإجابة عن جميع أسئلتنا.
تجسم أعمالنا في العالم الخارجي للرحم
كما قرأنا في المقالات السابقة، إن رحم الأم متواجد في الدنيا وبالتالي لا توجد فجوة بين رحم الأم والعالم. عندما يكون الجنين في رحم الأم، لا يكون على علم بالعالم الذي يحيط بالرحم، ونتيجة تشكيله في الرحم يتجسم في شكل موجود سوف يعيش في الدنيا بعد خروجه. و بالمثل، فإن الآخرة محيطة بنا ونحن في رحم الدنيا، بينما نقوم ببناء الأدوات المناسبة للعالم الذي ندخل إليه بمجرد الوفاة. و كما يواجه الجنين نتيجة أعماله في فترة الرحم وتتجسم أعماله عند الولادة، نحن أيضًا نواجه تجسيد أعمالنا ونتيجة أدواتنا في رحم العالم عندما نخرج من رحم الدنيا وندخل الآخرة.
مع ذلك، إن أعمالنا هي التي تصنع ظروفنا في الآخرة. وجودنا في الآخرة يتشكل في كل لحظة، مشاعر الحب والكراهية والقلق والسعادة والرغبات والأمنيات والعلاقات والسلوك والأفكار والاختيارات تشكل وجودنا الأبدي، بمعنى أن هذه الأعمال والأخلاق والمعتقدات هي التي تصنع جنتنا وجهنمنا. إننا سوف نواجه عالمنا الخاص في الدنيا لحظة بلحظة فور دخولنا عالم البرزخ، و الأدوات التي صنعناها من خلال أفكارنا وسلوكنا واختياراتنا وقراراتنا في رحم الدنيا سوف تكشف عن ماهيتها لنا عند دخولنا عالم الآخرة. إذا كانت هذه الأدوات متوافقة مع ظروف الحياة في الآخرة، فهي ضامنة لولادتنا في الجنة، وإذا لم تكن متوافقة مع ظروف الحياة في الآخرة، فهي سبب عدم استفادتنا وولادتنا في الجحيم. لذلك، فلن تذهب أعمالنا إلى مكان حقيقةً، بل إنها سوف تشكل صورة صغيرة ومستمرة في بناء وجودنا الأخروي.
إننا لا نرى في هذا العالم سوى الجانب الظاهري لأعمالنا، ولسنا مطلعين على حقيقتها وتأثيرها على الحياة الآخرة، تماماً كما هو حال الجنين داخل الرحم، غير مدركٍ لفعالية أعضاء جسمه في العالم الخارجي. إن العالم الرحمي لدينا هو مجرد وسيلة لتشكيل وتجسيد أعمالنا، ويتحقق هذا التجسيد فور دخولنا إلى العالم الآخر المحيط بنا و مواجهة ظروف الحياة في الآخرة.
في هذا المقال تعلمنا أن أعمالنا في الدنيا ليست منفصلة عنا. تماماً كما يعمل الجنين داخل رحم الأم على تشكيل جسمه، وعندما يدخل العالم الخارجي، فإنه يواجه نتيجة أعماله في الرحم. إن اختياراتنا وعلاقاتنا وأفكارنا وسلوكنا يشكلون كذلك حقيقتنا الحقيقية و سنواجهها عندما ندخل الآخرة. لذلك يمكننا القول أن الجنة والنار تتوقف على كل عمل فردي نقوم به في رحم الدنيا.
إلى أي مدى تفكرون في مواجهة أعمالكم في الآخرة؟ هل تستمتعون بمواجهة نتائج أفعالكم في الدنيا؟