ما المقصود بمفهوم القلب في علم الإنسان؟
سنقوم في هذا المقال بالتعمق في دراسة مفهوم القلب في علم الإنسان. ما الذي نعنيه عندما نتحدث عن “القلب“؟ هل نشير إلى العضلة الموجودة خلف عظم الصدر والتي تُسمى “القلب”، أم نقصد قلبًا آخر يتضمن مفهومًا مختلفًا مرتبطاً بسياق آخر؟
يُعرف القلب في علم الإنسان، بناءً على مكانته الفريدة، بأسماء متعددة مثل النفس، والأنا الحقيقية، والجزء الإنساني من الوجود، والطفل العزيز للروح، وغيرها من التسميات. ربما شعرتم أيضًا بأن هناك إلقاءً خاصًا يوجه انتباهكم نحو تلك العبارة “الطفل العزيز للروح”. إذاً يمكننا فهم مفهوم القلب في علم الإنسان بشكل أفضل من خلال التركيز على هذه العبارة.
عندما تفشل في تشغيل هاتفك المحمول، يصبح الاسم والعلامة التجارية والميزات الخاصة به بلا أهمية. أو في حالة تلف البطارية التي تعد جزءًا رئيسيًا منه، أو في حالة غيابها، يتحول الجهاز إلى شيء غير فعّال. هذا هو الحال مع جميع الكائنات، سواء كانت حية أم لا. الكائنات غير الحية تحتاج إلى آلة للتشغيل، حيث يُستخدم عادة مصطلح “محرك”، بينما تحتاج الكائنات الحية إلى محرك للحياة، وليس هذا المحرك غير “القلب“. كلمة “القلب” هي كلمة صغيرة ولكنها تحمل مفهومًا هائلًا وعميقًا.
دعونا نترك الكائنات الأخرى جانبًا ونركز على الإنسان ونستكشف مفهوم القلب في علم الإنسان. تتكون النفس الإنسانية عند دخولنا إلى هذه الدنيا من جانبين: الجانب الحيواني والجانب الإنساني. في هذا السياق، يبرز الجسم واحتياجاته بوضوح كأبرز صور الاحتياجات الحيوانية، ويبدو أن القلب الذي يُعَتَبَرُ أهم عضو في وجودنا، هو المنبع الذي يُضفي المعنى على باقي الأعضاء بفضل جهده الجليل. إلّا أنّ هذا القلب الصنوبري لا يعمل إلّا في وجود الجانب الإنساني، إذ أنّه وكما قد شاهدنا مرارًا وتكرارًا، بمجرد خروج الروح من الجسم، حتى ولو كانت جميع أعضاء الجسم سليمة وبصحة جيدة، فإنها ستتوقف عن العمل.
إذاً، يمكن القول بكل صدق أن العضو الأهم في وجودنا هو القلب، ولكن المقصود هو ليس القلب العضلي الذي يتواجد خلف أضلاعنا، بل ما يُشار إليه هو الجانب الإنساني في وجودنا، والذي يمنح المعنى لحياتنا ويُعتبر الشرط الأساسي لحياتنا. إنه مركز السيطرة على النفس الإنسانية و يُعَدُّ المحرك والسبب للحياة، ونبض كل جانب من جوانب وجودنا. ولكن، كيف يُمكننا إثبات هذا الادعاء؟
يُعتَبَر القلب في علم الإنسان القائد لجميع القوى
إن جسمنا عبارة عن نظامٌ معقّدٌ ومتقدّمٌ يتكوّن من أنظمة صغيرة، لجميع هذه الأنظمة قائدٌ واحدٌ قادر على التحكم في جميع الأعضاء والأجهزة في الجسم بفضل قوة الإرادة والاختيار. ولكن من هو هذا القائد؟
يرى بعض الأفراد أن الدماغ هو ذلك القائد، بينما تصبح قيادة الدماغ موضوع شكّ في ضوء المعرفة العلمية الحديثة حول هياكل الأمراض مثل السكتة الدماغية أو الحياة النباتية. لأن في مثل هذه الحالات، يتوقف الدماغ عن أداء وظائفه ولا يمكنه قيادة الجسم. ومع ذلك، يظل الجسم يعمل حتى بدون الدماغ ويبقى القلب نشطًا. أو في بعض الحالات، يمكن أن تكون كل أعضاء جسم الشخص سليمة بصورة انفرادية، بما فيه الدماغ، بينما يظل الجسم خامدًا والشخص ميتًا. إذن من هو القائد لجسمنا في مثل هذه الحالات؟
الذين يُلَخِّصُونَ الإنسان في الجسم والعالم في عالم المادة، يعتقدون أن قائد جسمنا لا يكون الدماغ نفسه، بل هو نتيجة لتفاعلات كيميائية تحدث فيه. يرى هؤلاء الأفراد أن جميع سلوكيات وأفعال الإنسان تعتمد على عمليات كيميائية متقدمة تحدث في الدماغ. ولكن هل يمكن قبول هذه الادعاءات؟
نحن ندرك الحقيقة التي تشير إلى أن العمليات الكيميائية المتشابهة بين المواد نفسها تؤدي دوماً إلى إنتاج نتائج متشابهة. إذا قبلنا أن جملة مشاعرنا وأفعالنا وأفكارنا هي نتيجة لعمليات مواد كيميائية داخل الدماغ وفقًا لهذا القانون العام، فقد قبلنا أنه يجب أن يظهر جميع البشر سلوكًا متشابهًا تمامًا في ظروف متشابهة، لأن البنية الدماغية هي واحدة للجميع و تتكون من مادة واحدة، والمواد الكيميائية الناتجة عن التفاعلات بين الخلايا العصبية في الدماغ متشابهة للجميع. نتيجة لذلك وفقًا لقوانين علم الكيمياء، يجب أن نحصل على نتائج متشابهة في إثر تفاعل مواد متشابهة. وهذا يعني أننا يجب أن نشهد ظهور سلوك متشابه من جميع الأفراد في تجارب حالات متشابهة مثل الغضب أو الفرح. على سبيل المثال، لا بد من أن يصرخ الجميع عند الغضب أو يهرب عند الخوف. ولكن، على الرغم من أن الهرمونات أو المواد الكيميائية نفسها تترشح في أجساد جميع الأفراد أثناء الغضب أو الخوف، وهذه الهرمونات لها نفس التأثير على خلايا الجسم، إلا أن سلوك الأفراد أمام هذه الانفعالات يبقى مختلفاً.
هناك نقطة جذابة تستحق الانتباه وهي أننا لا نستطيع أن نربط اختلاف سلوك الأفراد في مواقف مماثلة حتى إلى الاختلاف في الكروموسومات والجينات الوراثية الفردية لكل شخص. حيث أنّ التوائم المتماثلة رغم امتلاكها نمطًا جينياً متماثلاً و يتكونان جسديًا من مواد كيميائية متماثلة تمامًا، إلّا أنّهما إنسانين بشخصيتين مختلفتين تماماً. فلذا، إذا كان قائد الجسم هو نفس العمليات الكيميائية الدماغية، يجب على التوائم المتماثلة أن تعبر عن أفكار و سلوكيات متماثلة تماما في جميع الأوقات وفي مواجهة جميع الأحداث والظواهر في العالم، في حين أن الواقع يختلف تماما حيث تظهر اختلافات كبيرة في الآراء والسلوك بين التوائم المتماثلة. إذاً، ما هو السبب وراء هذا الاختلاف؟ كل من لا يؤمن بوجود الروح الإنسانية في وجودنا يجد نفسه عاجزًا عن الإجابة على هذا السؤال.
ما هي الحاجة الحقيقية للقلب أو الطفل العزيز للروح؟
شهدنا أن العامل الحيوي في جسمنا هو قوة غير مادية، يُطلق عليها في الفلسفة الإسلامية “الأنا الحقيقة” أو “القلب” أو “الطفل العزيز للروح”. يعد القلب في علم الإنسان حقيقة غير مادية حيث تعتمد حياة الجسم وجميع أعضائه وحتى الدماغ على وجوده. إنه الجوهر والحقيقة التي تظل حية ومستيقظة ومشغولة بالعمل دائماً وإذا انفصلت عن الجسم، يتوقف جسمنا عن العمل ويموت في المصطلح العام.
إنّ القلب هو نفسنا ويجسد حقيقتنا وله بنية غير مادية، غير أنّه يحتاج إلى جسم للعيش في عالم المادة فيتم نفخه في الجسم في مرحلة تكوّننا في رحم الأم. رغم محاولات العلوم التجريبية للتقدم، لا يمكنها الوصول إلى بنية القلب أو الجانب الإنساني لوجودنا، لأن قلوبنا ليست من هذا العالم المادي ولديها طبيعة غير مادية وغير محدودة. تكون دائرة الاختيار للقلب في علم الإنسان على مستوىً عالٍ حيث يمكنه تطوير نفسه بأشكال متنوعة وتجسيد سلوكيات متفاوتة من أسوئها أو أفضلها. يكمن السبب وراء التنوع الكبير في سلوك البشر في تنوع تربية قلوبهم. وببساطة، فإنّ القلب هو الذي يشكل شخصياتنا الفريدة ويدير حياتنا.
ربّما كانت تسمية القلب بـ “الطفل العزيز للروح” في علم الإنسان، تلميحًا رائعًا لتذكيرنا بأن كل طفل يحتاج إلى رعاية وتربية. سنستكشف هذا الموضوع بمزيد من التفاصيل في المقالات القادمة.
في هذا المقال، استعرضنا مفهوم القلب في علم الإنسان، مُؤَكِّدين على أهميته ومكانته الفريدة حيث يُعَتَبَرُ القائد الرئيسي لكافة جوانب وجودنا. وركزنا على ضرورة تربيته وإيلاء اهتمام خاص له، بما يُشبِه احتياجات الطفل إلى الإشراف والتوجيه ليسلك طريق النمو السليم، وبذلك تُتاح له فرصة الوصول إلى طريق السعادة الأبدية. لهذا السبب، يجب علينا أن نكون أولياء أمور واعين، نهتم بالطفل الداخلي لدينا، ونُولي اهتمامًا خاصًا لتغذية روحنا. قد يكون هذا صعبًا في البداية، ولكنه سيؤتي ثماره الحلوة بالتأكيد.
نتطلع إلى مشاركتكم الفعّالة والثرية حول القلب والدور البارز الذي يلعبه في قيادة حياتنا.