تحليل قانون القضاء والقدر والنظام الذي ينشأ من خلاله في الشؤون
ماذا فعلت لو عرفت أنه يوجد لديك يوم واحد متبقٍ من حياتك؟ هل سيدفعك ذلك للتأمل في كيفية قضاء هذا الوقت القيم؟ هل ستقوم بتغييرات جذرية في حياتك، أم ستستمر في العيش بنفس الروتين؟ تخيل للحظة أن الزمن يعود بك إلى الماضي القريب، قبل عشر سنوات مثلاً. كيف ستتصرف عندها؟ هل ستقوم بتغيير بعض التصرفات، وتعديل بعض الأفكار، وتحسين بعض الاختيارات، أم ستُبقي الأمور على حالها جميعا؟
ستقوم على الأرجح بتعديل واحدة على الأقل من المجالات التي لم ترض عنها. قد يتعلق الأمر بعلاقة معينة تعاني من تحديات أساسية لم تحل بعد، أو هدف قد فشلت في تحقيقه، أو حتى أفكار سلبية سيطرت عليك لمدة طويلة. قد يكون ذلك متعلقًا بتجنب سلوك خاطئ لم تكن تعي مدى تأثيره في البداية. بغض النظر عن الخيارات التي قد تتخذها، فهي إشارة إلى أنك تشعر بعدم الرضا عن جزءٍ من أدائك في الماضي. ولكن من أين ينبع عدم الرضا هذا؟ ولماذا نجد دائمًا ضرورة لتغيير الماضي؟
يعود أحد أسباب هذا الانقطاع إلى عدم تفاعلنا بشكل دقيق وشامل مع رياضيات عالم الكون. لا تحدث الأحداث في العالم بدون سبب أو تخطيط، بل يحدث كل شيء وفقًا لقوانين ثابتة لا تتغير، تكون تلك الرياضيات دقيقة و لذلك فلا يمكننا استخدام كلمة “صدفة” للإشارة إليها. استخدام مصطلح “صدفة” هو في حد ذاته إشارة إلى نظرتنا الخاطئة تجاه الأحداث. يحدث كل شيء في عالم الكون بنظام وفقًا لأسباب محددة، على سبيل المثال، إذا كان نظامك الغذائي يحتوي على الكثير من الكربوهيدرات والدهون، فيجب أن يترافق ذلك مع نشاط يومي قليل، و إلا سيؤدي ذلك إلى إصابتك بمشاكل صحية ليست ناتجة عن حدوث مفاجئ، بل هي نتيجة سلوكنا الخاطئ.
نطلق على هذا الترتيب الدقيق لسلسلة الأحداث في العالم مصطلح “قانون القضاء والقدر“. ولكن ماذا يعني هذا القانون بالضبط؟
ما هو قانون القضاء والقدر؟
تحمل كلمة “قضاء” لغةً بمعنى الحکم والفصل، في حين أن كلمة “قَدَر” تشير إلى الحجم والمقیاس. يُفهم بـ “القضاء” في الأدب الديني حكمًا أزليًا لا يمكن تحويله، بينما “القَدَر” يمثل الحجم المحدد الذي تم تحديده ضمن إطار محدد، والذي يكون في اختيار الإنسان. لذلك، يعتبر “القضاء” نتيجة لا مفر منها، بينما يظل “القَدَر” مشروطًا باختيار الإنسان. هذا يعني أننا قادرون على اختيار القَدَر ولدينا حرية في ذلك، ولكن لكل اختيار نتيجة لا يمكن تجاوزها. أي أننا لا يمكننا أبدًا التخلص من نتيجة اختيارنا لتناول كميات كبيرة من الكربوهيدرات والدهون والنشاط البدني الضعيف، لانها النتيجة المرتبطة باختياراتنا.
إذاً، یمکن القول في وصف بسيط أنّ قانون القضاء والقدر، أو بمعنى آخر القياس والنتيجة، يعني أنه ما قُدّر لنا أن نختاره، سيبني نتيجًة أو إطارًا لا يمكن تغييره. على الرغم من أننا أحرار في اختيار مقادير متنوعة أو مقاییس مختلفة لجوانب حياتنا، إلا أننا فور اختيار أحد هذه الأقدار أو بعبارة أخرى، عند اتخاذ القرار بين عدة خيارات، فإننا نحدد نتيجته بشكل لا مفر منه. يجدر الإشارة إلى أننا غالباً ما نغفل عند اتخاذ القرار، عن عدم إمكانية تغيير النتائج التي تنشأ عن اختياراتنا المختلفة. على سبيل المثال، إن القضاء الناتج عن عدم استخدام فرشاة الأسنان سيؤدي إلى تلف الأسنان بالتأكيد أو قضاء عدم الالتزام بدراسة الدرس سيؤدي إلى عدم اكتساب المهارات الضرورية.
لذا، استنادًا إلى قواعد قانون القضاء والقدر، لا یمکن أن يؤدّي التصرف الصحيح في الاختيارات إلى عدم تحقيق النتائج المرجوة. فمثلاً، لا يمكن أبدًا أن يحدث قضاء الإدمان على المخدرات لشخص لم يتعاط المخدرات أبدًا کقَدَرٍ، وفي الجهة الأخرى، لا يمكن لشخص اختيار قَدَر تعاطي المخدرات وأن لا يتورط في قضاء الإدمان. لذا، من أجل تغيير النتائج غير المرغوبة، يجب أن نتوقف عن اختيار أقدارها ونقوم بإحداث التغييرات اللازمة فیها. سنشرح هذا الأمر بشكل أكبر.
التغيير في النتيجة يعتمد على التغيير في القَدَر
إننا نتّبع في دهاليز حياتنا اليومية خُطة ترسم لنا الأهداف الطويلة المدى وتحدد لنا المسار العام. عند اختيار تخصصنا الجامعي، نضع خطة للسنوات المقبلة والنتيجة النهائية لها تكون اختيارًا وظيفيًا يتناسب مع مؤهلاتنا وامكانياتنا. ولكن ما هي المعرفة التي نستند إليها كأساس لتحديد هذه الأهداف و اتخاذ هذه القرارات؟ في هذا السياق، ومع عدم إمكانية العودة إلى الماضي لتغييره، كيف يمكننا تجنب الندم بعد عقد من الزمان؟
إن كل قرار نتخذه، سواء كان عملًا أو فكرًا، سيحمل معه قضاء أو نتيجة خاصة تعتمد على القَدَر الذي نختاره. ببساطة، يمكننا القول إن كل ما نختاره، فإننا في الحقيقة قد اخترناه قضاءً يترتب عليه کنتيجته. وكما ذكرنا، فإن القضاء يعني النتيجة أو الحكم، أو المحصول، وهو ناتج مباشر من اختيارنا لقَدَرٍ محدد. ووفقًا للمعنى اللغوي، يظهر أن كل “قضاء” أو نتيجة نرغب فيها تأتى نتيجة اختيارنا لقَدَرٍ معين. بمعنى آخر، لكل شيء قَدَرٌ علينا أن نتحمّله للحصول عليه. على سبيل المثال، تحقيق قضاءٍ مثل النجاح يتطلب قَدَرًا مثل التفاني والعمل الشاق. وللوصول إلى قضاءٍ كالمعرفة، يجب علينا دفع الثمن من جهد في التحصيل والتعلم. إذا لم نبذل الجهد الملائم کقَدَرٍ لتحقيق النجاح واكتساب المعرفة، فإننا لن نحقق النتائج المرجوة و لن نصل إلى النجاح بوصفه قضاءًا بقَدَرٍ کالتساهل وعدم الصبر. إن قانون القضاء والقدر يحكم جميع جوانب الحياة و قضايا العالم، حتى الأمور الروحية وعلاقتنا بالله.
عالم الکون معصوم وبريء!
تخيل أنك قمت بشراء سلعة من السوق بضعفي سعرها الحقيقي. طالما ليس لديك معلومات عن السعر الفعلي للسلعة، فإنك راض عن شرائك لها، ولكن حالما تدرك القيمة الحقيقية لها، يظهر لديك شعور بالخسارة والاستياء. تخيّل الآن شخصًا قضى رأس مال حياته ووقته في اقتناء سلع تم اقتناؤها بتكلفة باهظة، وبالإضافة إلى ذلك أنها قد شغلته عن القيام بأعماله الأساسية. أو کشخص اشترى سلعة مزيفة بدلاً من الأصلية التي كان في نيّته اقتنائها. حتى ولو كانت السلعة المزيفة لديها أداء قابلا للقبول، إلا أنها تُعتبر خسارة بسبب تكلفتها العالية.
كما ذكرنا فإن كل شخص يجهل القَدَرَ الأفضل، لن يكون قادرًا على تحقيق القضاء الأفضل. لأن العالَم قد تم خلقه معصومًا ولا تحدث فيه أي ظاهرة بدون سبب. في علم الفلسفة، يُعرف هذا النظام ببرهان العلة والمعلول الذي يسود في العالم، ويقول أنّهناك سبب لكل نتیجة. قانون العلّیة هو قانون طبيعي ولا يأتي من خلال التجربة. على سبيل المثال، لا یکاد يسمع الرضيع صوتًا، حتى يدير رأسه نحو الصوت لاكتشاف السبب.
لقد أبدع الله في خلق الكون ووضع أسسه على مبدأ العلاقات بين العلّة والمعلول، أو بعبارة أخرى: بناءً على مبدأ القضاء والقدر. لقد شاء الله أن يخلق نظاما يمكن أن يؤدي كل اختيار إلى تحقيق نتيجة معينة. ببساطة، يظهر قانون القضاء والقدر كمظهر لأسماء الله الحسنى: “القاضي” و”المقدّر”. وبناءً على ذلك، إذا لم نختر قَدَرًا مناسبًا، سنجد أنفسنا بالضرورة متورطين في قضاءه أو نتيجته.
من جانب آخر، يوجد هناك قضاء وقدر لا يمكن للفرد التأثير في اختياراته. على سبيل المثال، نحن لا نختار عائلتنا أو مكان ولادتنا، ولا نملك سوى قبولها كخيار. ومع ذلك، فإن واجبنا یختلف تجاه الأقدار التي اخترناها. في المقام الأول، يجب علينا التعرف على جميع الأقدار ومكانتها في تسلسل مستويات وجودنا، وأن نكون قادرين على أن نفرّق بين قدرات الجانب الإنساني بشكل صحيح عن الجوانب الأخرى، ومن ثم نسعى لاكتسابها.
قد قدمنا في هذا المقال شرحًا لمفهوم قانون القضاء والقدر، مؤكدين أن العالم هو نظام معصوم يعمل وفقًا لطريقته الخاصة الفريدة التي خُلق عليها. إذا فهمنا هذه البنية المنظمة والرياضية بشكل صحيح، ونظّمنا اختياراتنا وسلوكنا وأفكارنا وأفعالنا وفقًا للقوانين الرياضية التي تحكم الكون، فإننا لن نتعرض للخسارة أبدًا.