الأنا الحقيقية: مفهومها وتصنيف الإنسان في المخلوقات
ما هي “الأنا الحقيقية” في وجودنا؟ يتطلب هذا المفهوم تعريفًا دقيقًا، ولكن قبل ذلك، يجدر بنا التفكير فيما إذا كان هناك نقيض ذلك: “الأنا المزيفة“؟ الجواب هو نعم! يمكن أن تكون للبشر نسخة مزيفة مثل كل الظواهر الأخرى. ومع ذلك يبقى السؤال: ماذا يعني أن تكون مزيفًا؟ في تعريف بسيط، يمكن القول أن التزييف هو “أن تبدو ظاهرة ما على خلاف حقيقتها”، يتلخص هذا المعنى في تناقض الظاهر والباطن، عندما يدعي الشخص أنه يمتلك بعض الخصائص، بينما هو يفتقر إليها أو أنها ليست موجودة عنده في الجودة المزعومة. بعبارة أخرى، تبدو ظاهرة ما مشابهة لنسختها الأصلية، لكنها تختلف عنها كثيرا من حيث الوظيفة. الإنسان المزيف يشبه الإنسان في الشكل والظاهر، لكنه ليس إنسانًا في الداخل، وباطنه مختلف تماماً عن ظاهره. ربما سمعت هذه الکلمات في وصف بعض الناس:
- قلب فلان مصنوع من الحجر!
- الطول طول النخلة والعقل عقل الصخلة!
- فلان وضیع اکثر من الحیوان!
- من السهل على الإنسان أن يكون عالمًا ولكن من الصعب عليه أن يكون إنسانا.
- و… .
الحقيقة أن هذه العبارات تستعار عندما نرید التعبیر عن غياب الباطن الإنساني الحقيقي في شخص ما.
من المثير للإهتمام معرفة أن هذه الأوصاف تأتي في الواقع من أشياء وتجارب حقيقية. هذا يعني أن الإنسان حقًّا يمكنه أن ينحدر إلى مستوى الحجر أو النّبات أو الحيوان، و لاتکون لديه إنسانية على الإطلاق حتى بعد الحصول على مؤهلات أكاديمية عالية!
استخدام هذه التعابير لوصف الضعف في الإنسانية هو أحد جوانب القضية فقط، ولكن الموضوع المهم التي يستحق المناقشة هو تعريفنا الخاص لكوننا «إنساناً».
من هو أكثر إنساناً؟
ما رأيك في العبارات التالية؟
- كلما كان الشخص أكثر ثراءً، كان أكثر إنساناً.
- كلما كان الشخص أجمل، كان أكثر إنساناً.
- كلما كان الشخص أكثر تعلما، كان أكثر إنساناً.
لا یوجد عقل سلیم یقبل العبارات المذکورة اعلاه. لأن الجميع منا يعلم أن كون المرء إنسانًا هو مفهوم أعمق و أعلى من ذلك کله. ذكرنا أن وجود كل إنسان يتكون من جزئين و هما الطبيعي والحقيقي، كما أن لديه أبعاد مختلفة منها الجمادية والنباتية والحيوانية والعقلية. بامتلاكه هذه الأبعاد، فإنه يتمتع بکافة الكمالات. ينبغي التأكيد هنا على أنه لا يمكن لأحد أن ينكر ضرورة وجود كل من هذه الكمالات لنمو البعد الإنساني وتميزه، ولكن الشرط هو أن يتم التعامل مع كل من هذه الأبعاد بقدرها وفقًا لقيمتها الحقيقية، وللحفاظ على التوازن فيما يتعلق بها. اذا لم يكن الأمر كذلك، فلا ينبغي أن نسمي أنفسنا ب”إنسان“، إذ أن شخصيتنا تنجذب إلى البعد الذي قد استثمرنا من أجله أكثر، من حيث الوقت والمال و ..
ما يجعل الإنسان إنسانا هو جانبه ما وراء العقل
إذا كنا نشك في أي شيء، من المستحيل أن نشك في أنفسنا. نحن حاضرون في أنفسنا ونجد وجودنا ولسنا بخارجها أبدًا ولا نبتعد عن أنفسنا أبدًا. “الأنا” في وجود الإنسان ثابتة طيلة حياته رغم التقدم في العمر ولا تزول ولا تتغير بتغير الظروف والأزمان والبيئات، و“الأنا” اليوم هي نفس “الأنا” في الأمس ونفسها منذ عشرين عامًا. بطبيعة الحال، لا يمكن انتساب هذه “الأنا” بالجسد والمادة إذ تتآكل أجزاء أجسامنا بصورة طبيعية وبمرور الوقت، أو حتى تصبح ناقصة ولكن “الأنا” في وجودنا لا تتغير ولا تفسد. بالإضافة إلى ذلك، فإننا ننسب أجزاء الجسم لأنفسنا ونقول: يدي ورجلي وعقلي و …
إن النفس أو الروح هي التي تسبب وحدة الشخصية تشكّل “الأنا” الثابتة. کما قلنا من قبل، هناك مستويات وقوى مختلفة للنفس، معظمها مشتركة مع الكائنات الأخرى، ولا توجد سوى قوة واحدة تخصنا وتمنحنا التفوق والتميز على بقية المخلوقات، وهي قوة ما وراء العقل أو الجزء الإنساني من كياننا. هذه القوة موجودة في جميع البشر و تنبع منها رغبتنا في اللانهائية. و لأن البشر يمتلك هذه القوة العلیا، فإن لديه القدرة على التدريب والتعلم بلاحدود، ويمكنه أن يصل إلى مستويات الكمال إلى مالانهاية. بينما مرتبة باقي المخلوقات واضحة ولا تتعدى حدودها. ما يشكّل جزءنا الإنساني وذاتنا الحقيقية هو البُعد ما وراء العقلي. حیث أن الاختلاف الوحيد والفارق الأكبر بين الإنسان ومخلوقات الله الأخرى هو وجود الجزء الإنساني في وجوده. نحن البشر أشرف المخلوقات،[1] لأنه يوجد فينا شيئًا فريدًا خاصًا لایملکه غیرنا وهو الجزء الإنساني الذي يسمى جزء “ما وراء العقل”، و هو البعد الوحيد الذي على خلاف بقية الأبعاد الوجودية للإنسان، ليس مرتبطًا بالنفس الطبيعية .
البحث في جذر كلمة “ماوراء العقل” أو “فوق التجرد” من المنظور الفلسفي.
قد تم ذكر جذور مختلفة لتطبيق مفهوم “ماوراء العقل” أو ” “فوق التجرد”[2] للنفس الإنسانية وكلها تتضمن في النهاية مفهومًا واحدًا:
- إنّ للنفس الإنسانية مقاماً فوق العقل[3] والتجرد، هذا يعني أن ذلك المقام أعلى من مكانة الملائكة الذين هم عقول محضة .[4]
- كلّ واحد الملائكة مظهر من أحد الأسماء الإلهية بینما تعلّم آدم الأسماء کلّها وأصبح مظهراً لجميع الأسماء و صارت مکانته أعلى من الملائكة والكائنات التي تفكر أجمعها.[5]
النفس الإنسانية هي حقيقة ليس لها حدّ تقف عنده ولا يوجد لها مقام تنتهي إليه[6] و هذا هو معنى اصطلاح “فوق العقل” أو “ماوراء العقل” لنفس الإنسان. في حين أن الكائنات الأخرى لها رتبة محدودة، ولكل مخلوق مكانة ثابتة دون إمكانية التحول من صعید إلى آخر. ما عدا الإنسان، الذي هو الوحيد الذي ينمو ويتقدم باستمرار في مستواه الإنساني و یتطور وجوده من مستوى إلى آخر وليس له حد يتوقف عنده.
سبب ذكر کل ما تقدم هو أن القارىء قد لا یكون على دراية باصطلاح “ماوراء العقل” أو “فوق التجرد“، وقد يخطر لدیه هذا السؤال: «هل هناك شيء فوق العقل؟». إذا أردنا التعبير عن هذا بسهولة أكثر، فإننا غالباً نستخدم كلمة “الروح” بدلاً من “ماوراء العقل” و”فوق التجرد” و”النفس” أو “القلب” في الحياة اليومية، بيد أن معنی “الروح” ليست دقيقة في المفاهيم الفلسفية إلا أنّها قد تساعدنا على متابعة المحتوى بشكل أفضل. هذه القوة، قوة “ماوراء العقل” أو “فوق التجرد” موجودة في جميع البشر دون استثناء وهي مصدر آثار خاصة في وجودنا سنذكرها أدناه.
ماوراء العقل، الجزء الإنساني أو القلب؛ البعد السامي لوجود الإنسان
ما هو الكمال الحقيقي للإنسان؟ علاوة على أبعاد وجودنا التي نعرفها ونؤمن بها كل الإيمان، لدينا بُعد متفوق ومتسام يُعرف بـ : “ماوراء العقل” أو “القلب“، و و الذي يشكّل «الأنا الحقيقية»، وبسبب وجوده يطلق علینا كلمة «إنسان» و «أشرف المخلوقات»، و يؤهله أن تسجد له الملائكة. فيجد الجمیع منّا قلبه يتوجه شطر الكمال تمامًا مثل الأبعاد الاخری لوجوده، إلّا أنّ القلب هو مفطورٌ على عشق الكمال التام المطلق ولا يرضى بأقل منه، فهو على الرغم من أن یكون لديه كافة الكمالات الأخرى، لا يهدأ ولا يستقر حتى يصل إليه ويحتضنه بكل كيانه.
والكمال المطلق، كما يوحي إسمه، هو وجود مثالي من كل النّواحي ليس لديه أي نقص، بينما كمال بقية المخلوقات هي مجرد قطرة من كمالاته اللامحدودة والتي لا نهاية لها. لا يختص هذا الکمال المطلق إلّا لله عزوجل.
لذلك نحن لا نستحق أن یطلق علینا كلمة «الإنسان» و «أشرف المخلوقات» إلّا من خلال علاقتنا بالله، وحبنا له عزوجل والتّقرب والتّشبه له سبحانه وتعالى. و من البديهي أنّ الشخص الذي لا يتطور جانب ما وراء العقل عنده ولا يعرف الله معرفة حقيقية و لا يريد هذه المعرفة فلا يصح أن نسمیه «إنسانا» وإنّما هو فقط مخلوق يمشي على رجلین وفي أفضل حالاته يكون مثل الجماد والنبات والحيوان أو الملائكة وقد ينحدر إلى مستوى أقل منهم.
الآثار والكمالات الناجمة عن ما وراء العقل
يعشق الإنسان الكمال اللامحدود حسب فطرته و يطلب اللانهاية في كل شيء يذهب إليه: اللانهاية للعلم، اللانهاية للجمال، القوة اللانهائية، الثروة اللانهائية، و… لا يمكن إخفاء هذا الطلب للانهاية. إنّ کافّة النّاس هم محبّو الكمال اللامحدود دون استثناء ولن تجد من يُعجبه النقص والخلل.
تکمن رغبتنا للانهاية فی جزءنا “ماوراء العقل” أو قوة “فوق التجرد” التي تشكل البعد الإنساني وحقيقة وجودنا. كما سبق، إن لنا أبعادا وجودية مشترکة مع مخلوقات أخرى غير أنّ إنسانيتنا لا ترتبط بأي من هذه المشتركات، وما يجعل الإنسان «إنسانا» ويمنحه الفضيلة على الكائنات الأخرى هو هذا الجزء في النفس: “ماوراء العقل“.
لقد قلنا مراراً أن لكل بُعد من أبعاد وجودنا زوجه ومحبوبه الخاص والذي یوجد بينه و بين هذا المحبوب تجانس وتطابق. على سبيل المثال، تعتبر أشياء مثل المال والسّيارة والمنزل، كلّها محبوبة للجانب الجمادي عند الإنسان، کما أنّ الجانب النباتي في وجودنا یحب الكمالات النباتیة مثل الجمال وإنجاب الأطفال وما إلى ذلك الخ.
هذا ينطبق أيضا على جانب”ماوراء العقل” الذي محبوبه لیس سوی الله عز وجل، فوجوده أبدي أزلي لا نهاية له، ولا يوجد في ذاته عيب ولا نقص بل إنه یمثل مطلق الكمال و أساس ومصدر کل الکمالات. إنه سبحانه مصدر القوّة والثروة والمعرفة والجمال و الکمالات الأخرى بأکملها وهو الموجود الوحيد الذي قادر على أن يروي عطش روح الإنسان اللانهائية.
اذن ليس “للإنسان” محبوب آخر غير الله. انتبه إلى أنّنا قلنا “للإنسان” وما قلنا “للحجر” ولا “للنبات” ولا “للحيوان”! من بلغ إلى مستوى الإنسانية وتطور جانبه “ماوراء العقل” في التحول من القوّة إلى الفعل فسوف يدرك أنه لا إله ومحبوب له غير الله وأنه لا يستطيع أن يبقى سعيدًا و ينعم براحة البال والطمأنينة وهو بعيد عن الله عز وجل .
لا يقتنع الإنسان بأي من الكمالات المحدودة، لأنه ليس من نوعها و الذين يبحثون عن الثروة والسلطة والعلوم بطريقة جشعة لا شبع فيها، يسعون نحو السعادة من خلال اقتناء هذه الأصول؛ بينما هم لا یعرفون أنّهم يطلبون الله في أعماقهم و هم غافلون عن هذه الحقيقة، هذا لأنّهم لا يعرفون ذاتهم الحقيقية ويحاولون إرضاء رغباتهم اللانهائية مع الكمال المحدود.
إن وجود كلّ واحد منا يشبه بلد له ملك واحد يرأسه ككل، و لهذا الملك حكام مختلفين كل واحد منهم على عاتقه إدارة جزء من هذا البلد. بطبيعة الحال، لا يمكن تجاهل أهمية عمل كل منهم ولكن بشرط أن يكونوا خاضعین لحكم الملك و هو «ماوراء العقل». وبمجرد أن تعدى واحد منهم حدوده و اراد أن يستولي على كل الحكومة فسوف يضطرب أمن البلاد ويُفتح الطريق لاختراق القوى الشيطانية.
کل الکمالات منها الجمادية والنباتية والحيوانية والعقلیة مشرقة ومقدسة بشرط أن يتوّجها وجود الله عزوجل. فإذا كان جهدنا لاكتساب كل هذه الكمالات بهدف إرضاء الله ومحبته، فسوف نستنير بها، وإذا لم يكن الأمر كذلك، بغض النظر عن المكانة التي نصل إليها، فلن نجذب شيئا سوى الحزن و القلق وعدم راحة البال.
إنّ قلب الإنسان كالطفل الذي يبحث دائماً عن أمّه و عندما يلمس حضورها، يشعر بالأمان إلى جانبها ويمكنه الاستمتاع بكل شيء. لكن عندما يفقد والدته، لا يهدأ حتى مع أفضل ترفيه في العالم. كل ما يملكه الإنسان هو قلبه وهذا القلب يريد محبوبه ولا يُخدع أبدًا. نتيجة لذلك، حتى لو أراد الإنسان، لا يمكنه أن يتجاهل حاجة قلبه الأساسية الى الله.
إذا كانت لديك أي أسئلة حول هذه المفاهيم، فشاركها معنا في قسم التعليقات، وسنكون سعداء بالحصول على الإجابة معًا.
[1] . (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، الإسراء: 70
[2] . في المصطلح العرفاني.
[3] . الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة: لشيخ حسن حسن زاده الآملي: ص 269 و 270
[4] . الحكمة المتعالية في الاسفار الاربعة العقلية للملاصدرا: ج1, ص 252