الدنيا مزرعة الآخرة | الآخرة هي ثمرة أعمالنا في الدنيا

جدول المحتويات
الدنيا مزرعة الآخرة؛ نحن نرى نتائج أعمالنا في الآخرة

الدنيا مزرعة الآخرة؛ نحن نرى نتائج أعمالنا في الآخرة

كيف ترى الدنيا؟ ما هي قيمة ومكانة الدنيا في نظرك؟ هل تؤمن بالعلاقة بين الدنيا والآخرة؟

قد سمعت عبارة “الدنيا مزرعة الآخرة” مرارًا. كل إنسان، منذ اللحظة التي يدرك فيها وجوده، يعمل ويزرع في كل لحظة تمر من حياته مثل المزارع الذي يزرع البذور في الأرض. كل كلمة ينطق بها وكل تصرف يقوم به في الليل و النهار تشبه تماما عملية البذر و الغرس والحصاد في النهاية.  وكأننا نبدأ مسيرنا الزراعي مع بداية اليوم ونقوم بزراعة البذور إما بتحية وابتسامة وطيبة، أو بالنزاع والتجريح.  يختار كل شخص بذوره بنفسه، و تصبح أفعال كل شخص وكلماته هي البذور التي يزرعها ويحصدها في النهاية. تتوقف نتيجة هذا الحصاد على نوع البذرة المختارة: هل ستنتج المرارة أم الحلاوة؟

في هذه المقالة، نرغب في التحدث عن القوة الرحمية للدنيا وقدرتها البنّاءه للآخرة، وأن كل إنسان يبني آخرته من خلال أعماله ونياته. ليست الجنة والنار إلّا مزرعتان نقوم ببنائهما بدقة باستخدام الموارد التي جمعناها خلال حياتنا في الدنيا.

علاقة الدنيا بالآخرة

في حين أنه لا يمكن إنكار أن الدنيا لا يمكن مقارنتها بالآخرة من حيث الأهمية، وإنما هي مجرد سلعة ومتاع، إلا أننا يجب أن ندرك أن الدنيا تحمل قيمة فريدة لا مثيل لها، ولا يمكن حتى للآخرة أن تنافسها. ومن الضروري أن ندرك أن الله، في حكمته اللامتناهية، لم يخلق عالمًا أسمى وأغلى من هذه الدنيا. كل جانب من جوانب الجنة وكل جانب من جوانب الحياة الطيبة وكل ما يتجاوزها، يعتبر من انتاجات الدنيا. إننا بمجرد أن نخرج من الدنيا نصبح مقيدين و عاجزين وغير قادرين على تغيير مصيرنا. لذلك، لا بد من اغتنام الفرصة العابرة في الدنيا لأنها المساحة الوحيدة التي يمكن للفرد أن يشكل فيها ويحدد جوهره إلى الأبد. هذه الفرصة التي لا مثيل لها، سريعة الزوال و لن تتكرر أو تعادل أبدًا.

ذكرنا في المقالات السابقة إن العلاقة بين الدنيا والآخرة تشبه العلاقة بين رحم الأم والدنيا على الرغم من أن عمر الجنين قصير جدًا مقارنة بعمر الدنيا، إلا أن الدنيا ليست قادرة أبدًا على إضافة أو تعديل أي جزء من الجنين. هذا يدل على أن القوة المتواجدة في الجنين تتجلى في الدنيا. يمكن ملاحظة هذه النسبة أيضاً في العلاقة بين الدنيا والآخرة. في حين أن مدة حياتنا الدنيوية تتضاءل مقارنة بالآخرة، إلا أن الآخرة تفتقر إلى القدرات التحويلية التي تمتلكها الدنيا.

الدنيا هي عالم رحم مكتظ بالطاقة والقوة والسرعة والصيرورة. ساعة واحدة من الوجود والنشاط في رحم الدنيا يمكن أن تؤدي إلى تحولات كبيرة في الإنسان. لإنجاز مهمة تستغرق عدة ساعة في الدنيا، يتطلب وقت طويل جدًا في الآخرة. إن قوة الدنيا لها قابلية بتكفير ذنوب وخطايا ستين عامًا في ليلة واحدة. و على الرغم من أن الآخرة مليئة بالنعم والبركات، إلا أن قوتها البنّائة وإمكانية تعويض النقائص والخسائر فيها ضعيفة جدًا.(القوة الرحمية للدنيا هي قوة لا يمكن تجاهلها) لذا يجب على الإنسان الحكيم أن يسعى ويجتهد  في إرساء أسس الآخرة في الدنيا وأن يهتم بشؤون دنياه بعناية فائقة.

تفسير الدنيا بالأبدية

هناك علاقة وثيقة وتأثير قائم بين الدنيا والآخرة  لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، و معرفة هذه العلاقة وإدارتها بشكل فعال يؤدي إلى نتائج ملحوظة في بناء كليهما. إن للبداية والنهاية نفس القدر من الأهمية، وبدون معرفة واحتضان الأمرين سيظل كل منهما ناقصًا ودون المستوى.لا يمكن تحقيق النجاح الحقيقي إلا عندما تتماشى مساعي المرء بشكل متناغم مع هدفه النهائي بإصرار وحزم.

في رحلتنا نحو الآخرة، من المهم أن تتوافق أعمالنا مع الظروف الحياتية في الآخرة، لأن إهمال الاهتمام بالآخرة أثناء الاهتمام بالأمور الدنيوية يشبه تركيز الجنين على نموه في الرحم فقط، متجاهلاً حياته المستقبلية في الدنيا. إن قطع اتصال الجنين بالعالم داخل الرحم يمكن أن يؤدي إلى أمراض مختلفة وحتى وفاة الجنين، تمامًا كما يؤدي قطع اتصالنا بالحياة الآخرة إلى إيقاف تقدمنا. لننظر، على سبيل المثال، إلى جنين أعمى أو أصم داخل الرحم، ما دام هذا الحنين لا يزال في حضن رحم أمه، فلن يسبب هذا الضعف له أي ألم أو معاناة. ولكنه بمجرد دخوله إلى عالم النور والصوت، سوف يدرك هذا النقص والأضرار الناجمة عنه.

إن الدنيا بالنسبة لنا هي بمثابة الرحم للجنين. ذلك هو عالم البناء ولا يوجد فيه ألم أو حساب، بل هو مكان العمل فقط. كل إيماءة و سعي نقوم به في الدنيا بما في ذلك تناول الطعام، الزواج، قضايا الحياة الأُسرية الطلاق، البيع والشراء، الإرث، الأخلاق، السياسة والروحانية، كل ذلك يجب أن يتم تنظيمه مع أقصى قدر من الاهتمام للآخرة، وإذا حِذفت الآخرة أو إذا كان سلوكنا غير متوافق مع الظروف الحياتية هناك، فسوف نكون عرضة لخسارة كبيرة في الآخرة.

ما لم نؤمن بوجود عالم آخر بعد من هذه الدنيا، فإننا لن نهتم ولن نبذل أي جهد له، وإذا لم نستعد للحياة بعد الموت، فإننا سنواجه ولادة مؤلمة في البرزخ. لذلك، لا يمكننا أن نُعرّف الحياة الدنيا بغض النظر عن الآخرة. و لكي نعرف و نكتسب الثروات الحقيقية التي نحتاجها في الآخرة، يجب علينا تجاوز حدود الحس والوهم والخيال والوصول إلى عالم العقل وماوراء العقل لنتعرف ونكتسب الثروات الحقيقية واللازمة في عالم الآخرة. وبالتأكيد فإن كل من لا يؤمن بالأبدية يقع دوما في شرك قوالب الدنيا مثل الكمالات الجمادية والنباتية والحيوانية والعقلية.

العلاقة بين العمل والثروة الحقيقية

الدنيا هي مزرعة الآخرة، حيث تمثل كل لحظةٍ تمر فرصةً لزراعةٍ بذورٍ ثمرته إما السعادة أو الندم. إن حاضرنا هو شهادة على خيارات وأفعال ماضينا، ولا  نحصد اليوم سوى نتائج مساعينا السابقة. في الواقع، إن مجيئنا إلى الدنيا يعني قدومنا إلى ساحة العمل. لقد قدمنا جميعا لكي نعمل، لأن العمل هو الذي سوف يُشكّل شاكلتنا الوجودية و يُكسبنا الثروة الحقيقية.

إن فلسفتنا الوجودية ليست غير اكتساب الثروة الحقيقية والصيرورة. إننا نُشكّل شخصيتنا الوجودية من خلال التفاعلات المتنوعة والمتعددة التي ننخرط فيها مع أنفسنا ومحيطنا، بناءً على نوع الاختيارات والعلاقات والسلوك والأفكار التي لدينا. هذه  المجالات الأربعة المحورية، هي التي تبني كتل وجودنا بشكل متسلسل وتحدد أسلوب حياتنا وأساس شخصيتنا الإنسانية وتضعنا تحت سيطرتها. على سبيل المثال، إذا كان شخص ما طالبا أو مهندسا، فهذا هو نتيجة مباشرة للاختيارات والعلاقات والسلوك والأفكار التي اعتنقها والتي جعلت منه طالبًا أو مهندسًا. ومهما تكون شخصيته في المستقبل فهي ناتجة عن الوقت الحالي للفرد. لذلك فإننا بينما نمضي قدمًا، ستكون شخصيتنا المستقبلية انعكاسًا مباشرًا لواقع حالنا.

كوننا محظوظين أو محرومين، قريبين أو بعيدين، علماء أو جاهلين، هادئين أو مضطربين، جيدين أو سيئين، كل هذا يتوقف على الأحداث التي تكشفت في ماضينا. وبالتالي، فإننا محاصرون دائمًا بعواقب أفعالنا، سواء من حيث الكم أو النوع، ولا يوجد وسيلة للهروب من هذا الواقع. وفي النهاية، سنولد ونجازي بأفعالنا. إن طبيعة حياتنا في البرزخ، والقيود التي سنواجهها في القيامة، و نمط حياتنا بعد القيامة، كل ذلك يعتمد على اختياراتنا وعلاقاتنا وسلوكنا وأفكارنا. إذن لننتبه إلى أن بذور البؤس أو السعادة والجحيم أو الجنة تنبت من داخلنا. لا أحد غيرنا مسؤول عن زراعتنا وحصادنا، لأننا نحصد ما نزرعه. إن البذور التي نزرعها اليوم تصنع حياتنا غدا، سواء كانت جيدة أم سيئة.

السؤال الأهم الذي يجب على كل شخص أن يطرحه على نفسه هو كيف يقضي حياته. هل يتقدم يوما بعد يوم نحو الهدف النهائي لوجوده أم لا؟ وفي هذا الصدد، فإن نوع وعواطفنا بمثابة شهادة على الخيارات التي قمنا بها والتقدم الذي أحرزناه في هذا المجال الواسع. كم هو مؤسف أن ندرك أنه بعد عمر من العيش في الدنيا، أننا فشلنا في التطور و لم نصل إلى المستوى الذي نحتاجه للعيش في الآخرة، لأن الجنة هي أقل ما يجب أن نهيئ أنفسنا لها في الدنيا. فكما أن الجنين في بطن أمه يبذل كل تخطيطه وتركيزه على بناء جسم سليم مع مراعاة القواعد والأنظمة للدنيا، كذلك ينبغي علينا أن نبذل قصارى جهدنا في الدنيا من أجل ولادة ناجحة في عالم الآخرة. وتماما كما لن يكون الجنين سعيدا إذا جلب معه شيئا إضافيا مثل يد أو قدم إضافية، فإننا سنعاني من العذاب إذا أخذنا وجوهًا غير لائقة معنا إلى الآخرة.

تحدثنا في هذه المقالة عن الدنيا وقوتها الخالقة والبنّاءة للأبدية، و ذكرنا أن الدنيا مزرعة الآخرة وأننا نزرع في كل لحظة سواء شئنا أم أبينا لنحصد ثماره في الآخرة. إن جميع أفكارنا واختياراتنا وعلاقاتنا وسلوكياتنا في الدنيا بما في ذلك ما نسمعه وما نأكله و ما نراه، هو بمثابة قطع البازل التي تشكل شخصيتنا الحقيقية، ومحصولها في الآخرة هو جنتنا وجحيمنا.

كيف تصف الدنيا الآن؟ هل تعتقد أن الدنيا تحدد مستوى جودة حياتنا في الآخرة؟ نحن سعداء لمشاركة آرائكم في هذا الصدد.

اكتب رأيك